التدبير الذي افتتحه الله في العنصرة بحلول الروح القدس على التلاميذ كان أعظم من التدبير الذي افتتحه الابن المتجسّد، والذي انكشف لنا بشكل خاصّ في بشارته العلنيّة. ابتدأ يسوع بشارته بهذه الدعوة: «توبوا، فقد اقترب ملكوت السموات» (متّى ٣: ٢)، وأنهى تدبيره على الأرض بأن بقي مع تلاميذه مدّة أربعين يومًا «يكلّمهم بما يختصّ بملكوت السموات» (أعمال ١: ٣). ابتدأ بشارته العلنيّة وختمها بأن افتتح ملكوت أبيه ودعانا إليه، وحدّثنا بكلّ ما سمعه من الآب، وصنع أمامنا ما رآه الآب يعمل، وعرّفنا بمشيئته بوصايا وأمثال، وأعطانا الحياة الحقيقيّة التي من لدنه، أي أن تكون حياته حياتنا.
في التدبير الذي ابتدأ في العنصرة، وهو مكمّل للذي سبقه، بات أعضاء جسد المسيح يقومون بأعمال «أعظم» من تلك التي قام به الابن المتجسّد (يوحنّا ١٤: ١٢). إلى ذلك، جعل بيننا لُحمة، بأن أعطانا أن نحمل أوهان بعضنا البعض، ونقدّم حياتنا كلّها للمسيح، فتصير «مستترة معه في الله» (كولوسي ٣: ٣). منحنا الفهم لننفذ إلى معنى الوصايا وطريقة عيشها. أغدق علينا المواهب الإلهيّة التي بها نخطّ على الأرض مشيئة الآب السماويّ ونبني بها ملكوته في داخلنا. أقامنا في الوحدة التي دعانا إلى أن نحافظ عليها برباط السلام والمحبّة. أمرنا بأن نعطي النعمة مجّانًا وبأن نعاونه في أن يأتي الجنس البشريّ كلّه إلى معرفة الإله الحقيقيّ وإلى مَن أرسله، يسوع المسيح. علّمنا كيف نرفع الصلاة إلى الله والوقوف في حضرته. طلب منّا أن نعطيه الإنسان العتيق مع آلامه وضعفاته وشهواته وخطاياه، لنأخذ منه الإنسان الجديد، خميرةً جديدة تصلح لتخمير عجين البشريّة المريض جدًّا.
أدركت الكنيسة أنّ الإنسان عمومًا مريض جدًّا وبعيد كلّ البعد عن الله، مصدر الوجود والحياة والكمال. لذا يبدو أنّ هذا التدبير بالروح القدس إنّما هو سباحة عكس التيّار، لأنّ المؤمن يواجه فيه نفسه ويواجه الشرّ والخطيئة والموت المعشّشة فيه وحوله، كما يواجه الشرّير أيضًا. لكنّ الله شاء أن يعزّينا في الجهاد والسعي بأن أعطانا مَن يرشدنا في الطريق، ويحيينا في السقطات، ويلهمنا في الشدائد، ويعلّمنا ماذا نقول وماذا نفعل، ويجدّد بنا الحياة، إن التجأنا إليه بثقة وتواضع. أعطانا روحه، بالإضافة إلى جسده، لنغتذي منه ونغذّي به، فلا نفترق عنه، بل نكون متّحدين به.
هكذا يعمل التدبير الثاني بالروح القدس كما كان التدبير الأوّل بالابن المتجسّد، أي بتواضع وتوارٍ ومحبّة فائقة. وقد عرفنا فعل الروح في نفوس القدّيسين الذين استقرّ فيهم، فأعطونا مثالًا عن معالم هذا الملكوت الحيّ الذي هيّأه الله الآب للمؤمنين بتدبيره بابنه يسوع وبعمل روحه القدّوس.
ما أجمل هذه الصلاة التي وضعتها الكنيسة في فهم رئيس الكهنة، أثناء مباركته المؤمنين بالذيكاري والتريكاري عند ترنيم التريصاجيون في القدّاس الإلهيّ. فهو يقول في الشطر الأوّل: «يا يسوع، امنحْ عبيدك تعزية سريعة وثابتة عند ضجر أرواحنا، ولا تبتعدْ عن عقولنا في الأحزان ولا على نفوسنا في الشدائد، بل تداركْنا دائمًا»؛ بينما يقول في الشطر الثاني: «اقتربْ إلينا اقتربْ، يا من هو في كلّ مكان، وكما كنتَ دائمًا مع رسلك، هكذا اتحدْ ذاتك مع التائقين إليك يا رؤوف، حتّى إذا كنّا متّحدين بك، نمجّد ونسبّح روحك الكلّيّ قدسه».
عسانا نمجّده ونسبّحه بشفاهنا وقلوبنا وحياتنا اليوميّة، ونطلبه في كلّ آن. فلا أعذب من حضوره فينا، رغم عدم استحقاقنا له. لا يكفينا الوقت لشكر الله على عمل الروح فينا من أجل خلاصنا وخلاص العالم. ليتنا نستغلّ الوقت والطاقة في أن نجعل من وقتنا وحياتنا معملًا ينتج الخير، بالروح، لكلّ من يعبر في حياتنا، فيصطاده الروح إلى معرفة الله والإيمان به من كلّ القلب وخدمته كما نحن نخدمه، بل وأفضل منّا.
سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)