وطنية – ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، خدمة قداس الأحد الجديد في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد الإنجيل ألقى عودة عظة قال فيها: “المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور، يسمى الأسبوع الذي يلي الفصح “أسبوع التجديدات”، وهو يمتد من إثنين الباعوث إلى أحد توما المسمى الأحد الجديد. خلال هذا الأسبوع تبقى أبواب الهيكل مفتوحة لأن المسيح قد فتح لنا أبواب الفردوس، وانشق حجاب الهيكل، والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين (متى27: 51 – 52)، فلم يعد أي حاجز يمنع دخولنا إلى الملكوت، ولا شيء يفصل بين الأرض والسماء.
تعتبر الكنيسة أسبوع التجديدات يوما واحدا لأنه أسبوع يختلف عن الأسابيع الأخرى، إذ هو خارج الزمن لأنه يعلن لنا “ما لم تره عين ولم تسمع به أذن” (1كو2: 9). إنه امتداد ليوم الفصح الذي تسميه الكنيسة اليوم الثامن، لأنه يوم القيامة، والقيامة لا تندرج في حسابات هذا الزمن. أسبوع التجديدات هو بمثابة يوم واحد متواصل، لا يقطعه ليل، لأن يوم الفصح أبدي لا يغرب أبدا”.
أضاف: “في أسبوع التجديدات، نعيد ترتيل خدمة الفصح لنجدد إيماننا بالقيامة، بعد أن عشنا الملكوت وتذوقناه يوم الفصح، ورسالتنا أن نشهد للملكوت الذي عشناه ونحيا على رجاء تحقيق دخولنا إليه في المجيء الثاني.
المسيحي الحقيقي، يبقى على هذا الرجاء مهما كثرت التجارب وتعددت الصعوبات. لكن ضعيف الإيمان ينهزم أمام أول تجربة، ويتساءل أين هو الله ولماذا سمح بحصول التجربة”.
ولفت عودة الى أن “يد الرب حاضرة مهما اشتدت الأزمات، وهو واقف على باب قلبنا يقرع لنفتح له. لكن القلوب غالبا ما تكون موصدة، ولا يعي الإنسان أنه هو الغائب عن الله.
الله يبحث عن وجه الإنسان وعن قلبه. تجسد ليلاقيه ويعيش معه ويخلصه. هدفه تغيير قلب الإنسان ليزيد إنسانية ومحبة ورحمة.
جاء في سفر التكوين: “وباركهم الله وقال لهم انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها، وتسلطوا على سمك البحر وطير السماء وجميع الحيوان الذي يدب على الأرض” (تك1: 28). أعطانا الحياة وجعلنا أبناء الله، وسلطنا على كل شيء، إنما بسلطان المحبة لا الظلم والجشع والحقد والكبرياء والشر. ماذا فعلنا؟ دمرنا الطبيعة واستغليناها لمصالحنا حتى انتفضت علينا، وها نحن نعاني من التغير المناخي والإحتباس الحراري وذوبان الجليد والفيضانات، وثقب الأوزون، ما سبب الأمراض وانقراض أنواع النبات والحيوان، وانتشار الفيروسات، وكورونا آخرها. يقول النبي إرمياء: “إلى متى تنوح الأرض وييبس العشب في كل حقل، وتهلك البهائم والطيور من شر الساكنين فيها، القائلين: الله لا يرى ما نفعل؟” (إرميا12: 4)”.
وتابع: “عدو الإنسان هي يده التي ترتكب الآثام، كما هو لسانه، وعقله أحيانا. فالإنسان الذي ظن نفسه إلها في الفردوس سقط بسبب كبريائه وعصيانه. وإنسان هذا العصر، الذي ظن أن بإمكانه التسلط على كل شيء، يقف عاجزا أمام فيروس غامض يذكره بحجمه وضعفه، وبأنه لا شيء إن لم يكن الله معه وفي قلبه.
عالمنا يعاني لأنه ابتعد عن ينبوع الحياة ونور العالم. لقد هجر الإنسان الله من حياته فضاقت به الحياة. اختصر إنسان اليوم حياته بالبحث عن الفانيات من أجل بناء عالمه الخاص، ليشبع طمعه ورغباته ولو على حساب الآخرين. هذا العالم خال من المعنى، من الفرح، من الإكتفاء، لأن الإنسان متى بلغ هدفا يريد آخر، ويقضي حياته بحثا عن سعادة لن يبلغها لأنها أمامه ولا يراها. يقول الرب يسوع: “أنا الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم” (يو6: 51)”.
وسأل: “ألم يحن الوقت للعودة إلى الله؟ لقد خلقنا على صورته ومثاله، وعندما ابتعدنا عنه وسقطنا لم يتركنا في الضلال وحاول عبر أنبيائه وقديسيه أن يرشدنا، ولما استمرينا في الضلال أخلى ذاته آخذا صورة عبد ليعيش بيننا ويثنينا عما يهلكنا، ثم مات ليخلصنا، وهو حاضر دائما لاستقبالنا متى شئنا ذلك بإرادتنا، حاضر ليزيح عن قلوبنا ثقل الخطيئة فتنقشع الظلمة التي تغمر حياتنا. ليكن هذا الوباء الذي يجتاح العالم فرصة للتأمل في معنى حياتنا.
كائن لا يرى، يتغلغل في الرئتين، يهدد الإنسان، البشرية جمعاء، دون غيرها من الكائنات، لا فرق عنده بين غني وفقير، بين قوي وضعيف، بين عالم وجاهل. حربه الشرسة هذه تدفع الإنسان إلى أن يدرك أن عظمته وجبروته وملياراته وسلاحه الفتاك، كلها عاجزة عن الدفاع عنه. فلم يجمع الإنسان المال وقد يموت بطرفة عين؟ لم يلهث وراء المناصب ويزيل كل من وما يقف أمامه؟ ألم يدرك أن المال لا يحميه وأن الجبروت لا يعطيه مناعة؟ قالت ابنة فقدت والدها:” نحن عائلة ثرية، لكن والدي توفي وحيدا ومختنقا يبحث عن شيء مجاني هو الهواء. أما المال فبقي في المنزل”.
وتابع عودة: “كلنا متساوون أمام المرض. فيروس صغير يهزم الكبار الذين يظنون أنفسهم فوق كل مرض أو ضعف أو محاسبة، ولم يدركوا بعد أن القصور لا تحمي والقوة لا تجدي، وأن على الإنسان أن يعود إلى رشده ويدرك حجمه ويرفض اللهاث وراء الأمور الفانية: السلطة، المال، المجد الباطل، المراكز والصفقات، ويعود إلى نفسه، إلى ضميره، إلى الله، إلى بساطة الحياة ونقاوتها. عليه أن يغير سلوكه ليعيش بسلام مع محيطه، مع أخيه الإنسان، ومع الطبيعة وكل الكائنات. المفارقة أن الطبيعة في هذه الأيام تتنفس وتنتعش فيما الإنسان يختنق. فليعتبر الإنسان”.
وقال: “أزمة كورونا فضحت هشاشة المجتمعات، وضعف الأنظمة الصحية، وعدم الإستشراف عند حكومات العالم أجمع، وأكدت للانسان عجزه أمام الأزمات الكبرى واجتياح الأوبئة، رغم تطور العلم وتقدم التكنولوجيا. يقول إرمياء النبي: “لا يفتخر الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبار بجبروته، ولا يفتخر الغني بغناه، بل بهذا ليفتخر المفتخر: بأنه يفهم ويعرفني لأني أنا الرب المجري الرحمة والحكم والعدل في الأرض” (إرميا9: 23).
أملنا أن يعي الإنسان أن عليه تغيير سلوكه، كما على الحكومات أن تستثمر في الأمور الصحية والأبحاث العلمية التي تؤدي إلى خير الإنسان، عوض الإستثمار في الأسلحة المدمرة والحروب لأن حياة الإنسان كنز ممنوح من الله الخالق وعلى الجميع أن يحافظوا عليه”.
وختم عودة: “اليوم، الأحد الجديد، تسميه الكنيسة أيضا أحد توما الذي، لضعفه البشري، أراد أن يتأكد بنفسه من قيامة الرب يسوع. شكه لم يكن مطلقا بل نابعا من إيمانه بالمسيح الذي عايشه وشهد صلبه وموته ويريد أن يؤكد قيامته. إنسان اليوم يشك بالله وبوجوده، ويتصرف كأنه هو الإله. قد يكون هذا الوباء الذي تعاني منه البشرية رسالة إلهية لكي يعي الإنسان أن كل شيء زائل إلا وجه ربنا، فلنمجده في كل حين” .