حادثة شفاء الأعمى منذ مولده تدخلك في صميم عمل الله في العالم. فها الربّ يدخلنا إلى كنه هذا العمل لمّا أفصح لتلاميذه عن واقع المولود أعمى: «لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه» (يوحنّا ٩: ٣). فإذ به يقدّم لنا مقاربة جديدة نتناول بها حياتنا وكلّ ما فيها من منظار عمل الله، ما يجعلنا نقف موقف الشريك في أعمال مجيدة أعدّها الله لنا، وشاهدين لها بعد أن نكون قد اجتزنا، فرادى وجماعة، مرحلة العمى الذي يحجب عنّا رؤية الله وأعماله والمجد الكامن فيها.
في هذا السبيل، يدخلنا الربّ في السرّ الكامن في هذه المقاربة. فها هو يقول جهارًا للتلاميذ: «ينبغي لي أن أعمل أعمال الذي أرسلني» (يوحنّا ٩: ٤). بهذا الكلام وضع تلاميذه، كما يضعنا نحن اليوم، في لقاء وإصغاء واستعداد وشوق لاستدرار معرفة مشيئة الله والعمل على تجسيدها في حياتنا. في إصرار الربّ- «ينبغي لي»- ينقلك من واقعك على أهمّيّته، ومن طريقة قراءتك له ومقاربتك إيّاه، إلى قراءة جديدة تنطلق من منظار رؤية الله لنا ولحياتنا وحضوره في العالم وعمله فيه.
لا يمكن للمرء أن يقرأ من دون أن يكون هناك نور. فبعد أن تمرّس المسيح في أن يصنع مشيئة أبيه وأن تكون أعماله ترجمة لها، لم يتركنا وحيدين ولا في الظلمة. فبقوله: «ما دمتُ في العالم فأنا نور العالم» (يوحنّا ٩: ٥)، أعطانا النور المطلوب لمقاربة حياتنا من الآن فصاعدًا. أن نجعله حاضرًا، ليبقى للعالم نور، وهو نور حضور المسيح ونعمته، هذا يعني أن نربط كلّ عمل نقوم به بذكر الله، قبل الشروع فيه، وعند تنفيذه، وبعد إنجازه. إن فعلنا هذا، نضع أنفسنا في خطّ المسيح الذي أعلنه لتلاميذه من جهة أنّه يعمل أعمال الذي أرسله وأنّنا نؤمن بأنّه نور العالم في العالم. بهذا نعكس أنّنا حريصون على طلب معرفة مشيئة الله في حياتنا، وأنّنا نؤمن بأنّ تحقيق هذه المشيئة هو نور لنا وللعالم.
يدهشنا في نصّ الإنجيل كيف تفاعل المولود أعمى مع المسيح. فسؤال المسيح له، بعد أن «أُخرجه خارجًا»، إن كان يؤمن بابن الله (يوحنّا ٩: ٣٥)، قد لقي جوابًا عمليًّا من الأعمى منذ بدء لقائه بالمسيح. فعندما امتحنه المسيح بما يزيد العمى بطليه عينَيه بالطين (أي بما يزيد من عدم استطاعته الرؤية) وطلبه منه أن يغسلهما في البركة، لم يتوانَ هذا الأعمى في وضع نفسه في خطّ المسيح: «فمضى واغتسل وأتى بصيرًا» (يوحنّا ٩: ٧). لم تفصلْه عن المسيح لا التجربة المريرة منذ مولده، ولا ما قد يبدو لنا أنّه «التجربة» الأخيرة بوضعه الطين على عينَيه، ولا حتّى ما أعقبها من موقف والدَيه أو الفرّيسيّين من العجيبة. هكذا ظهرت أعمال الله في هذا الأعمى، فقد وضع نفسه في خطّ المسيح فشهد له، قبل أن يسجد له، في حركة دائريّة تنطلق من الله، وتؤدّى لحسابه، قبل أن تعود إليه من جديد بالسجود والعبادة والشكران.
لعلّك تأخذ الآن نصيبًا كنصيب هذا الأعمى، إن كنتَ لا ترى. فالربّ لا زال يعمل أعمال أبيه من أجل أن يرى العالم أعمال الله، وقد اختارك ليظهر أعمال الله فيك. ألا ترى ذلك؟ إن كان جوابك بالإيجاب، فافعلْ ما يقوله لك؛ وإن كان جوابك بالنفي، فاطلب النور منه، فأنت، في كلتَي الحالتَين، في مرمى المسيح لترى وتؤمن وتشهد لأعمال الله بدورك. عسانا ننشد معًا: «ما أعظم أعمالك يا ربّ، كلّها بحكمة صنعتَ» (مزمور ١٠٣: ٢٤).
سلوان
متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما
(جبل لبنان)