القدّيس يوحنا الرحوم بطريرك الإسكندرية .
في إحدى قطع صلاة المساء الخاصة بهذا النهار، ترتل الكنيسة المقدّسة على “يا رب إليك صرخت” الأنشودة التالية: “يا يوحنا المستحق التعجّب، لقد أعطاك الرب j11جميع مطالب قلبك لأنك قد حفظت كل الشرائع الخلاصية وأحببت الله إلى الغاية، والقريب مثل نفسك، وكفيت السائلين، فلذلك نحتفل بك اليوم أيها المغبّط من الله”.
هذا القول في شأن قديس الله، يوحنا المكنّى بـ “الرحيم”، خلاصة سيرة وعلّة إكرام حتى حسبته الكنيسة أحد أساقفتها النموذجيين الذين أودعت ذكرهم أفشين “خلص يا رب شعبك وبارك ميراثك…”. ترجمه كل من ليونتيوس، أسقف نيابوليس القبرصي، ويوحنا موسكوس الدمشقي صاحب “المرج الروحي” مكملاً بالقديس صوفرونيوس الدمشقي الأورشليمي.
نشأته:
ولد القدّيس يوحنا في العام 555 للميلاد في بلدة أماثوس القبرصية وفيها رقد في العام 619. كان والده أبيفانيوس أحد المتنفذين في الحكم في جزيرة قبرص: هذا كانت له على ابنه سطوة. تلقى نصيباً من العلم لا بأس به، ويبدو أنه نشأ على مخافة الله. ولما بلغ زوّجه والده عنوة فأنجب جملة أولاد. لكن، كانت له مع ربّه غير قصّة ولله في قدّيسيه غير أحكام، فقد رقدت زوجته وكذا أولاده في زهرة العمر وتركوه وحيداً إلى ربه.
يوحنا بطريركاً:
ثم فجأة ظهر قصد الله فيه. ففي العام 609 أو ربما 610 للميلاد انتزع نيقيتا، قريب الإمبراطور هرقل، الإسكندرية إثر الفوضى التي دبّت في الإمبراطورية بعد المؤامرة التي دبّرها فوقا. وإذا بيوحنا، الرجل العامي، يبرز كبطريرك على المدينة. ظروف ارتقائه السدّة المرقسية لا نعرفها ولا تفاصيل انتقاله عبر الدرج الإكليريكي. موسكوس وصوفرونيوس ذكرا أنه كان أخاً لنيقيتا بالتبني فيما ورد في نص ليونتيوس أنه صار عرّاباً لأولاد الحاكم الجديد. في كل حال صار قديسنا بطريركاً على الإسكندرية واتخذ اسم يوحنا الخامس. وقد أظهرت الأيام أنه رغم ما غلّف اختياره من أمور غير عادية فإن ما جرى كان بتدبير من الله.
بلاد مصر يومها كان أكثرها من أصحاب الطبيعة الواحدة. وثمة من يقول أنه عندما اعتلى يوحنا الأسقفية لم يكن في الإسكندرية غير سبع كنائس أرثوذكسية. بيد أنه عندما غادرها كان العدد قد بلغ السبعين.
يروى عنه أنه قبل تصييره بطريركاً جمع خدّام البطريركية وعمّال الخزينة وأمرهم بإجراء مسح في المدينة لمن أسماهم “أسياده” وأن لا يغفلوا أحداً. ولما تساءلوا مستغربين من عساهم يكونون “أسياد” البطريرك هؤلاء أجابهم: “أن الذين تدعونهم أنتم فقراء وشحاذين، هؤلاء أعلنهم لي سادة ومجيرين، لأنهم وحدهم القادرون على مساعدتنا، وهم الذين يمنحوننا ملكوت السماوات”. وللحال انطلق الخدّام يبحثون عن “الفقراء الأسياد”. ولما أنجزوا المهمة أتوه بلائحة فيها سبعة آلاف وخمسماية اسم. هؤلاء أمر يوحنا لهم بما كان مدخراً في صندوق البطريركية، ثمانية آلاف ذهبية وأن يتولى الشمامسة سدّ حاجاتهم من دخل البطريركية، يوماً فيوماً. فقط إذ ذاك دخل الكنيسة في موكب وتمّ تصييره بطريركاً.
ثقته بالله:
وكان لا بد أن يثير تصرف البطريرك الجديد تساؤلات ومخاوف وانتقادات لاسيما بعدما انتشر خبره وأضحى للمساكين والمضنوكين والمتعبين ملاذاً وعزاء: كيف يفي بوعوده؟ من أين يعيل جحافل هذه أعدادها؟ الكلام هيّن ولكن كيف يفعلون؟ فكان لسان حال يوحنا وكان جوابه، وسيرته كلها كانت الجواب: “حتى ولو نزل العالم كله إلى الإسكندرية مستحسناً، مستجيراً لما ضيّق على الكنيسة المقدّسة ولا أنضب كنوز الله التي لا تنضب”. بمثل هذه الثقة سلك يوحنا، وغالباً ما اعتاد أن يردّد في صلاته: “سنرى، يا سيدي، لأي منا تكون الغلبة: لك في العطاء أم لي في التوزيع على الفقراء، لأني أعترف أنه ليس لي ما ليس من رأفتك وبها أستعين”.
هذا هو الرجل الذي تجاسر فضارع الله. خدمتنا الليتورجية تسمّيه “نهر عمل الخير الذي لا ينفذ”. لم يردّ سائلاً أبداً. لم يكن القياس بالنسبة إليه أن يعطي إذا كان لديه بل أن من يرسله الله إليك يعطيك أن تعطيه لأن الذي قال: “كل من سألك فأعطه” (لو30:6) “ومن أراد أن يقترض منك فلا تردّه” قال أيضاً “أسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم”. هذه خبرها قديسنا في يومياته وخبر أيضاً أن من ترك بيوتاً أو أخوة… أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف… (مت29:19).
مئة ضعف:
إنسان نهب اللصوص محتويات بيته إلى آخرها جاء إلى يوحنا كسير القلب مستعيناً فأمر القديس بإعطائه خمس عشرة ليرة ذهبية. ولكن، استكثر الخادم القيمة. وبعد التداول والخازن وأمين الصندوق استقر رأي الثلاثة على إعطاء طالب الخير ثلث المبلغ، خمس ليرات وحسب. وكتم الخدام الخبر. أثناء ذلك كان يوحنا في خدمة الصلاة اليومية. فلما عاد إلى داره وجد في انتظاره رسالة من أرملة لها ولد وحيد، فيها أنها قرّرت أن تعطي البطريرك خمسمئة من الليرات الذهبية. إذ ذاك عرف يوحنا بالروح أنها عطية الله في مقابل ما أمر به لذاك الرجل المنكوب. ولكن، كان له في قلبه شك. فلقد اعتاد أن ينال من الله مئة ضعف عما يعطي فقراءه. فلو كان المبلغ المعطى خمس عشرة ذهبية لكان يفترض أن يكون المبلغ المرسل من الله ألفاً وخمسمئة لا خمسمئة وحسب. فأرسل في طلب خدّام المال وسألهم: “ماذا أعطيتم الرجل؟” فقالوا: “خمس عشرة ذهبية كما أمرت” فلم يرتح قلبه واستحضر المضنك وسأله: كم من المال أعطاه الموظفون؟ فقال: “خمساً”. فأرسل في طلب الخدّام من جديد وقال لهم: “إن لله عليكم ألفاً من الذهب لأنكم أخلفتم في ما قلته لكم وبدل الخمس العشرة أعطيتم خمساً لذلك أرسل الله لنا خمسمئة عوض الألف والخمسمئة. ولكي تتأكدوا من ذلك، ها أنا مرسل من يأتيني بالمرأة المعطية لتكشف لنا الأمر، وتتعلموا أنتم ألا تكذبوا وتعصوا بعد اليوم”. وأوفد يوحنا اثنين قائلاً للمرأة: “هلمّ إليّ بما وضعه الله في قلبك أن تعطينا”. فأسرعت وحضرت لديه بخمسمئة من الذهب فبارك عليها وعلى ولدها، ثم سألها: “قولي لي، يا أختاه، أكان هذا هو المبلغ الذي عزمت على إعطائنا إياه في الأساس؟” فأجابته أنها كتبت أول ما كتبت ألفاً وخمسمئة وقامت للصلاة. ثم قبل أن تبعث بالرسالة فضّتها وقرأتها من جديد فوجدت أنه لسبب لا تعرفه تغيّر الرقم من ألف وخمسمئة إلى خمسمئة، وكأن يداً محت الرقم الأول، فقالت في نفسها: “لاشك أن الله لا يريدني أن أعطي أكثر من خمسمئة وعلى هذا بعثت برسالتي إليك”.
من يستحق:
ولم يكن يوحنا ليميّز بين مستحق وغير مستحق. عطاؤه كان غير مشروط. جاءته مرة نساء يستجدين فأمر لهن بما أمر لغيرهن. ولكن كانت هؤلاء تتحلين بالعقود والأساور، فأثار الأمر لغطاً وسجساً بين الشمامسة فنقل أحدهم إلى القدّيس يوحنا واقع النسوة فكان جوابه بعدما رمقهم بنظرة فيها الحزن والتجهّم: “ما دمتم ترغبون في أن تكونوا موزّعين للعطايا فلا تعصوا القائل: “من سألك فأعطه”. وإذا ما خطر ببالكم أن تتقصّوا خفايا الناس وتتحكّموا في أمورهم فلا نصيب لكم في هذه الخدمة”.
السبت للإنسان:
وانتهى إلى يوحنا أن ثمّة فقراء ومحتاجين أو مظلومين لا يصلون إليه بسبب من الخدّام والموظفين والترتيبات والأصول، فما كان منه سوى أن خرج إليهم بنفسه وجعل الأربعاء والجمعة من كل أسبوع موعداً يصرف فيه الشمامسة والموظفين إلا خادماً ينفذ ما يشير به إليه، ليجلس هو أمام الكنيسة والإنجيل في يده منتظراً أن يسمع صوت من لا صوت لهم وأنّةً من يعف الآخرون عن سماع أناتهم. وكان على الخادم ومن يستعين بهم لقضاء حاجات الناس وإنصافهم ألا يذوقوا طعاماً قبل أن يكملوا ما يؤمرون به. وكان يقول: “إذا كنا نحن نخاطب الله هكذا “فلتدركنا مراحمك سريعاً” (مز8:78) فكيف لنا أن ننال عنده الحظوى وهو القائل: “بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم” (مت2:7) ما دمنا لا ننصف المظلومين إلينا وننصفهم سريعاً؟”.
الإنصاف قبل القربان:
إنصاف الناس عند يوحنا الرحيم كان قرباناً. لم يحسب نفسه مستأهلاً أن يرفع الخبز والخمر في سر الشكر قبل أن يرفع الضيم عن المظلومين. في طريقه مرة إلى الكنيسة دنت إليه امرأة ووقعت عند قدميه وصرخت بدموع: “أعني يا سيّد، فإن أخ زوجي لا يكف عن أذيتي والتضييق عليّ”. فارتبكت حاشية البطريرك وقال لها بعضهم: “سينظر البطريرك في أمرك متى عاد من الكنيسة”. فقاطعهم القدّيس قائلاً: “بل أنظر في أمرها الآن، وإلا كيف يصغي الله إلى صوت تضرعي؟ ثم من يدري إن كنت أحيا إلى الغد. فإذا ما شاء ربّي أن يردّني إليه فبماذا أجيب عن المرأة إن لم أنصفها؟”. قال هذا وبقي حتى أنصفها. وبعد ذلك أكمل طريقه إلى الكنيسة مرتاح البال.
يوحنا والرشوة:
وكان بعض الناس يستغل طيب البطريرك أو يجرّبه، وكانت للبطريرك حيال ذلك غير ما اعتاد الناس من مواقف. الموظفون المرتشون محابو الوجوه كيف عاملهم بعدما اطّلع على أمرهم؟ استدعاهم ولم يوبخهم ولا صرفهم، بل أمر لهم بضعف أجرهم، ثم ذكّرهم بما جاء في سفر أيوب: “النار تأكل خيام الرّشوة” (أيو34:15). وبنعمة الله تحسّن حالهم وازدهرت بيوتهم حتى عفّ بعضهم عن أخذ العلاوة.
ماذا عن المستغلين:
وآخر انبرى للقديس مجرباً فغيّر هيأته ثلاث مرات وتقدم مستجدياً، فأعطاه أول مرة ست قطع نقدية، وكذا في المرة الثانية. وعندما حاول أحد الشمامسة لفته إلى رياء الرجل في المرة الثالثة أجاب: “أعطوه الآن اثني عشر قطعة فلعلّه المسيح جاء يمتحنني”.
الكرم حتى الإهانة:
وآخر جاء شحّاذاً فأمر له يوحنا بعشر نحاسيات فاغتاظ الشحّاذ وأهان البطريرك في وجهه لأنه لم يعطه كما أراد. وإذ تحرّك الحاضرون وأزمعوا أن يلقوا بهذا الوقح بعيداً وبخّهم القديس وقال لهم: “بل دعوه، يا إخوتي. ها أنا قد بلغت الستين من عمري وما أزال أهين المسيح. أكثير عليّ أن أهان مرة من هذا الصديق؟” ثم أن القديس الذي اعتاد أن يدعو نفسه “يوحنا الوضيع” فتح للشحاذ كيس المال وقال له: “خذ ما تشاء يا صاح”.
حتى نكران الجميل:
وآخر أيضاً جاءه مستعيناً. ولما كان القول الإلهي: “من أراد أن يقترض منك فلا تردّه” (مت42:5) فقد سأله الرجل عشرين ليرة ذهبية فكان له ما أراد. ثم أن الرجل أنكر، بعد حين، أن يكون قد أخذ من الكنيسة شيئاً. ولما رغب إداريو البطريركية وحفظة المال أن يلاحقوه ويسجنوه ويصادروا ممتلكاته، تصدّى لهم رجل الله قائلاً: “كونوا رحماء كما إن أباكم أيضاً رحيم… فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين” (لو36:6 ومت45:5). ولم يسمح القديس لعمّاله بأن يزعجوا الرجل. وإذ أصرّوا لأن هذا المشعوذ يأكل مال الفقر، أجابهم: “ألم يقل السيّد من أخذ الذي لك فلا تطالبه؟” (لو30:6). فلا تتعدوا الوصية! ثم أليس خليقاً بنا يا أولادي أن نكون للناس مثالاً في الصبر، وأيضاً قال الرسول المصطفى: “لماذا لا تظلمون بالحري، لماذا لا تسلبون بالحري؟!” (1كور7:6). إذا كان حسناً أن نعطي من يسألنا فأحسن منه وأكرم أن تعطي الذين لا يسألون. أما الذين يريدون أن يأخذوا ثوبنا فلنعطهم الرداء أيضاً (مت40:5) فإننا بذلك نقتدي بالملائكة، لا بل بالله عينه. أما ما نعطيه للفقراء من الخير الذي عندنا لا من مال السوء الذي نحصّله بالنزاع والمشاحنة.
فقير مع الفقراء:
وبقدر ما كان القديس يوحنا رحيماً كان فقيراً لا يطيق أن ينعم هو بما ينقص أسياده، أخوة المسيح الفقراء. من ذلك مثلاً أن أحد الأثرياء لاحظ مرة رتاتة ملحفة القديس فاشترى له واحدة بالغة الجودة، غالية الثمن، فقبلها يوحنا محبة بالمعطي. لكنه أبى أن يلتحف بها أكثر من ليلة واحدة. والحق أن عينيه لن تعرفا طعم النوم تلك الليلة لأن أفكاراً موجعة كانت تقضّه: كيف أنعم أنا بالدفء وإخوتي في الخارج يرتجفون؟! كيف أنعم أنا بما غلا وفقراء المسيح مطروحون؟! هذا اللحاف كان يمكن أن يتغطى بثمنه مئة وأربعة وأربعون برداناً. ويحي أنا الشقي! إذا كنت لأحيا في هذا البذخ فلن أذوق ما أعده الله للذين يحبونه وسيقال لي كمثل الغني: “لقد استوفيت خيراتك في حياتك والفقراء بلاياهم، والآن فهم يتعزّون وأنت تتعذّب”.
وما أن أطل الصباح حتى بعث قديسنا باللحاف إلى السوق ليباع. ولكن، لاحظه الثري معروضاً للبيع فاشتراه من جديد وقدّمه إلى البطريرك فعاد البطريرك وباعه ثانية. وأيضاً اشتراه الثري للمرة الثالثة فعاد يوحنا وباعه وقال للمعطي: “سنرى من يتعب أولاً أنا أم أنت”. قال ذلك ليتحداه لأنه حسن في عيني يوحنا أن يأخذ مالاً من الغني، بهذه الطريقة، ليعطيه للفقراء. وقد اعتاد أن يقول أنه إذا عمد الواحد منا إلى الأخذ من الأغنياء دونما بغض لهم ليعطي الفقراء، فحتى ولو انتزع منهم الأقمصة فإنه لا يرتكب إثماً، لاسيما إذا كانوا بخلاء بلا قلب. فإن فعل ذلك أحسن الصنيع مرتين لأنه يخلص نفوس الأغنياء ويقتني لنفسه جزاء حسناً. ولكي يدعم قوله اعتاد أن يذكّر بما فعله القدّيس ابيفانيوس لينتزع فضة البطريرك يوحنا الأورشليمي بالحيلة ويعطيها للفقراء.
القديس والمديح:
وغالباً ما كان القديس يوحنا يتعرض للمديح. فكان يحرص على مقاطعة المتحدث بالقول: “ولكنني لم أهرق دمي عنك، بعد، يا أخي كما أوصى المسيح إلهنا، ربي وربنا جميعاً”. وفي مناسبة أخرى، عندما حلّ الخراب بأورشليم بعد غزوة الفرس لها بادر إلى إرسال الأموال والمؤن والعمال والعدد إلى بطريركها مودستوس ليعيد بناء الكنائس فيها، لاسيما كنيسة القيامة قائلاً له: “ألا ثق يا أخي أنه لو أمكن لكنت آتي إليك وأعمل بنفسي في إعادة بناء كنيسة القيامة المقدسة لربنا وإلهنا يسوع المسيح. وأيضاً التمس منك ألا تخط اسمي على الألواح، أياً تكن، بل أن تسأل المسيح أن يكتب اسمي هناك حيث للكتابة بركة حقّانية”.
انتظر الرب:
وكان طبيعياً أن تنقص الموارد وترتفع أصوات الاستغاثة وتشتد الأزمات والتجارب من وقت لآخر. جواب القديس حيال ذلك كان أبداً: “جيّد أن ينتظر الإنسان ويتوقّع بسكوت خلاص الرب” (مرا26:3). ولعل التجربة إذ ذاك هي أن يدخل المرء في مساومات وألاعيب ويهبط، بحجّة الاهتمام بالفقير، إلى دركات لا تجيزها الشريعة. وما كان القديس ليتزحزح عن الثقة بالله. فلا مساومة عنده ولا تبرير لما يخالف الشريعة. في هذا الإطار ثمّ قصة تفيد أن المجاعة حلّت يوماً ببلاد مصر بعدما هبط مستوى نهر النيل وتدفّق على الإسكندرية سيل من المهجّرين إثر هجمات الفرس على البلاد السورية وفينيقيا وفلسطين. فما كان من القديس يوحنا سوى أن اقترض مالاً من بعض الصالحين هنا وهناك آملاً في أن تنحل الأزمة في غضون أسابيع أو أشهر قليلة. ولكن، تفاقمت المجاعة ولم تبلغ البلاد سفن إمدادات كان متوقعاً وصولها. فأقام يوحنا صائماً مصلياً يتوقع بصمت خلاص إلهه. وإذ بواحد من الأثرياء يبعث إليه برسالة يقول فيها: “…بعدما انتهى إليّ أنك تعاني من النقص في المؤن بسماح من الله أو ربما بسبب خطايانا، فإني أنا خادمك، قوزما، لا يسعني، بعد، أن أكون في الراحة وسيّدي في العوز الدائم. لذلك أعلمك، أنا عبدك غير المستحق، أن عندي مئتي ألف كيس من الذرة ومئة وثمانين وزنة من الذهب. هذه التمس تقديمها إلى الرب يسوع المسيح من خلالك. فقط هبني، أنا غير المستحق، أن أنعم بخدمة الشموسية لديك لأطهر من خطاياي. والرسول بولس قال: “…بالضرورة يصير تغيّر للناموس أيضاً” (عبر12:7). قال الثري ذلك لأنه تزوّج مرتين وما كان يجوز له أن يصير شماساً.
وأرسل يوحنا في طلب الرجل وأخرج الحاضرين خارجاً لأنه لم يرد أن يذلّه. ثم قال له: “لاشك أن تقدمتك غاية في السخاء ونحن محتاجون إليها في الوقت الحاضر، ولكنها تقدمة معيوبة، وأنت تعلم أن الحمل في الشريعة، بغض النظر عن حجمه، كبيراً أو صغيراً، ما كان ليقبل قرباناً إلا خالياً من العيب. لذا لم ينظر الله إلى قايين عندما قرّب ذبيحته. أما بعد، فما قلته يا أخي بشأن ما ذكره الرسول أنه بالضرورة يصير تغيّر للناموس أيضاً فإنما كان بشأن شريعة العهد العتيق وإلا لما قال يعقوب، أخو الرب: “من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرماً في الكل”. (يع10:2). أما ما يختص بأخوتي الفقراء، وبالكنيسة المقدّسة، فإن الله الذي أعالهم قبل أن نولد، أنا وأنت، سيعولهم اليوم أيضاّ، ولكن، فقط، إن حفظنا وصاياه غير منثلمة. فإن من كثّر الأرغفة الخمسة قديماً قادر أن يكثّر الأكياس العشرة الباقية في أهرائنا. لذلك أقول لك، يا بني، ما هو مكتوب في سفر أعمال الرسل: “ليس لك نصيب ولا قرعة في هذا الأمر”. (أع21:8).
وما كاد يخرج من عند يوحنا حتى جاءه خبر أن سفينتين محمّلتين بالذرة قادمتين من صقلية قد رستا لتوّهما في الميناء. إذ ذاك وقع يوحنا على ركبتيه وشكر العليّ وقال: “أشكرك، يا معلم، أنك لم تسمح أن يبيع خادمك نعمتك بفضّة. والحق، الحق أن من يلتمسونك ويحفظون أحكام كنيستك المقدّسة لا ينقصهم أي خير”.
مستشفيات:
وكان مجال اهتمام القدّيس يوحنا بالفقراء واسعاً حتى أنه استحدث خانات لإيواء الذين لا مأوى لهم، لاسيما خلال أشهر الشتاء، والغرباء والمهجّرين. كما فتح المستشفيات واهتمّ بالحالات الصحية التي يمكن اعتبارها من وجوه الاختصاص. مثلاً حلّت بالمدينة مرة المجاعة وعمل خدّام البطريركية على توفير بعض المال والمؤن للمحتاجين. وإن بعض النسوة الحديثات الوضع اضطررن اتقاء للجوع أن يغادرن أسرتهن وهنّ بعد ضعيفات تقضهن آلام الحشى. فلما بلغ القدّيس خبرهن بادر للحال إلى فتح سبعة مستشفيات في أنحاء مختلفة من المدينة وزوّد كلاً منها بأربعين سريراً لاستقبال حالات النسوة الحديثات الوضع والعناية بهن سبعة أيام كاملة ثم إرسالهن إلى بيوتهن مزودات ببعض المال والحاجيات.
ضبط المقاييس والأوزان:
إلى ذلك سعى القدّيس يوحنا إلى ضبط المقاييس والأوزان في المدينة حيث بدا أنه كان للبطريرك بعض السلطان في أمور نعتبر اليوم أنها من اختصاص الإدارات العامة. وقد ورد في القرار البطريركي في هذا الشأن: “…أما وقد أصدرنا هذا القرار فإن من تثبت مخالفته له يكون ملزماً بتوزيع ممتلكاته على المحتاجين، شاء أم أبى، ولن يتلقى مقابل ذلك أي تعويض”.
مع السلطة المدنية:
وكانت للقدّيس يوحنا مواقف في التعاطي مع السلطة المدنية ينبغي تسجيلها. لا نعرف ما عمق دور البطريرك في السياسة العامة، ولكن ورد في ترجمته بالإضافة إلى ما ذكرناه بشأن ضبط المقاييس والموازين أنه أمر مرة بضرب امرأة وجلد راهب وإيداعه السجن الانفرادي. كما نعرف أن قديسنا دخل في نزاع مرة مع نيقيتا الحاكم في شأن من الشؤون العامة. فلقد شاء نيقيتا أن يضبط حركة السوق العامة بحيث يضمن دخلاً لصندوق الولاية بغض النظر عما يمكن أن يسبب ذلك من إرهاق للفقراء، فأبى عليه يوحنا ذلك.
ومرة ثانية جاء الحاكم إلى القدّيس قائلاً: “الإمبراطورية في ضيق وتحتاج إلى مال. وأنت، يبدو أنك تنفق ما يأتيك وهو كثير، بلا حساب، فهات ما عندك لتغذية صندوق الولاية”. فأجابه يوحنا: “ليس جائزاً، بحسب فهمي، يا سيدي، أن نعطي للملك الأرضي ما هو للملك السماوي. ولكن حتى ولو كان في نيتك أن تأخذ ما ليس لك فليكن في علمك أن “يوحنا الوضيع” ليس مستعداً أن يعطيك قرشاً واحداً من مال الله. ومع ذلك أقول لك، دونك صندوق المال تحت السرير، فافعل ما تراه مناسباً”.
إلى ذلك اهتم يوحنا بلفت الحاكم إلى أمورٍ كعدم قبول الوشايات بحق الناس على علاتها والتأني في الحكم عليهم، عدلاً وإنصافاً، وأيضاً أن من ينقل خبراً كاذباً عن آخر يجب أن يعاقب بما كان يمكن أن يعاقب به من وجهت التهمة إليه وثبتت براءته.
إصلاح الناس:
وكانت للقدّيس يوحنا، فوق ذلك، مزايا ملفتة، لم يقسم مرة في حياته. وإذا ما شاء أن يصلح عيباً في إنسان نسبه إلى نفسه. فإذا ما شاء أن يصلح مستكبراً منتفخاً قال: “أنا متعجّب، يا سادتي، أن نفسي الشقية لا تذكر فضيلة الاتضاع التي أظهرها ابن الله على الأرض، بل تراني انتفخ وأتعالى على أخي، ربما لأن مظهري أفضل من مظهره أو لأني أغنى منه أو بسبب منصبي، أو لأني أمتاز عنه بأمر من الأمور، وأنسى الصوت الإلهي القائل: “تعلّموا مني فإني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت29:11)، ولا أتأمل في أقوال القدّيسين. فهذا يقول عن نفسه أنه “تراب ورماد” (يشوع بن سيراخ 32:17) وآخر أنه دودة لا إنسان” (مز6:21)، وآخر أنه “ثقيل الفم واللسان” (خر10:4). حتى أشعياء النبي قال عن نفسه أنه “نجس الشفتين” (أش5:6) مع أنه عدّ مستأهلاً أن يعاين الله. وأنا من أنا؟ مجرد رجل وضيع. ألم أُصنع من طين كما القرميد؟ ثم كل هذا المجد الذي أظنه يخصني أليس “كزهر العشب” (1بط24:1) ييبس؟!”.
ذكر الموت دواء:
وأيضاً متى لاحظ القدّيس يوحنا بعض المتعجرفين المتذاكين المازحين الوقحين في محضره كان يقول قولاً كهذا: “يكفينا لكي نخلص، يا أخوتي، أن نتأمل دائماً، وبصورة جديّة، بالموت وأنه متى أتت الساعة فلن يكون للواحد منا رفيق غير أعماله. وعندما يسرع الملائكة إلينا فيا لشقاء النفس، إذ ذاك، إذا كانت غير مستعدّة! سوف نتوسل بدموع لتعطى لنا فرصة أخرى ولو قصيرة، وسيقال لنا: “ماذا فعلت خلال كل هذا الزمان؟! كيف أضعته؟! ويل لي أي مخاوف تقبض على نفسي وكيف أرتجف متى دعيت لأقدم حساباً دقيقاً قاطعاً عما فعلت؟! ألم تسمعوا بما أُعلن للقدّيس سمعان العامودي في رؤيا: “متى خرجت النفس من البدن وأخذت طريقها إلى السماء تلتقيها قوات من الأبالسة، كل في فرقته. فكوكبة من شياطين العجرفة تتصدى لها وتتحسّسها من كل صوب لترى إن كان للنفس أعمال من أعمالها. وكوكبة من الأرواح المفترية تلتقيها فتتصفّحها لترى إن كانت قد تكلمت بافتراء ولم تتب. وأيضاً تنتظرها، في موضع أعلى، شياطين الزنى فيفتشون عما بثّوه في تلك النفس علهم يجدونه. وفيما تساق النفس الشقية لتقدم الحساب في طريقها من الأرض إلى السماء، يقف الملائكة جانباً ولا يعينون. فقط فضائل النفس، إذ ذاك، تعين…”
كلام القدّيس يوحنا عن الموت كان حياً لدرجة أنه والحاضرين معه كانوا يتمثلون الدينونة كما لو كانت أمام عيونهم فيهلعون ويرتجفون. وكان هو يقول في صرخة صلاة: “أعطنا، ربي، ملائكتك القدّيسين أدلاء يحفظوننا ويهدوننا لأن سخط الشياطين علينا مريع، ومريع الخوف والارتجاف وخطر السفر عبر بحر الهواء. فإنه إذا ما كان السفر من مدينة إلى مدينة على الأرض يستدعي دليلاً يقودنا لئلا نقع في الشقوق وأجحار الضواري أو الأنهر المتعذّر اجتيازها أو الجبال التي لا معبر فيها ولا يبلغ إليها أو في أيدي اللصوص أو في صحاري لا ماء فيها ولا حدّ لها فنتوه، فكم ترانا بحاجة إلى أدلاء وحراس من الله متى انطلقنا في تلك الرحلة الطويلة الأزلية، رحلة الخروج من الجسد إلى السماء؟”.
هذه الأقوال وغيرها اعتاد القديس تردادها، وكان لها على السامعين وطأتها فالمتعظمون يتعظون والضاحكون يبكون وذوو العيون الوقحة يطأطئون الرأس ويخرسون والجميع يخرجون على غير ما دخلوا، نخسي القلوب، حزانى على نفوسهم.
القديس والرهبان:
وأراد يوحنا أن يكون له نصيب في صلاة الرهبان وقد أدرك أنهم ملح الكنيسة، فاهتم بإقامة شركتين رهبانيتين ورتّب لهما حاجات الجسد وبنى لهما قلالي جاعلاً الواحدة تحت شفاعة والدة الإله والأخرى تحت شفاعة القدّيس يوحنا المعمدان. وكان قوله لهم هكذا: “ليكن معلوماً عندكم أني قد أخذت على عاتقي، بعد الله، قضاء حاجاتكم في الجسد، ولكن عليكم أن تضعوا نصب أعينكم خلاص نفسي بحيث تكون صلواتكم المسائية وسهراناتكم من أجلي أنا لدى الله. أما سر الشكر، متى أقمتموه، فيكون من أجلكم أنتم ولنفعكم”.
هذا وقد انطب عت الحياة في المدينة، بتأثير هاتين الشركتين، بطابع شبه رهباني حتى كان مألوفاً أن تمتد الصلوات والتراتيل إلى الله، في أنحاء المدينة، الليل بطوله.
الناس والقداس:
والقداس الإلهي أولاه القديس يوحنا أهمية بالغة وما كان ليطيق خروج الناس بعد قراءة الإنجيل أو تجمعهم في باحة الكنيسة واستغراقهم في الأحاديث البطالة. لهذا السبب كان أحياناً يخرج إلى خارج الكنيسة بعد تلاوة الإنجيل ويجلس هناك بين الشعب. وطبعاً كان تصرفه يثير استغراب الناس وتسألهم. فكان يقول لهم: “يا أولادي، حيث تكون الرعية فهناك ينبغي أن يكون الراعي أيضاً. ادخلوا إلى الكنيسة فأدخل معكم وإلا فسأبقى هنا معكم. لأني إنما أتيت إلى الكنيسة من أجلكم وكان بإمكاني أن أبقى في الدار البطريركية وأقيم الخدمة هناك لو كان الأمر يخصّني وحدي”.
هذا الموقف من قبل البطريرك كان يربك القوم. ولئلا يحرجهم مرة بعد مرة بدأوا يلتزمون البقاء في الداخل إلى آخر الخدمة الإلهية.
القديس والهراطقة:
وطالما أن حديثنا ههنا هو عن القداس الإلهي فمن المفيد لنا أن نعرف أن مما كان قدّيسنا يؤكده ولا يتسامح بشأنه ضرورة عدم الاختلاط بالهراطقة والامتناع، تحت أي ظرف، من الاشتراك في الكأس الواحدة معهم. وهذا ما كان يقوله: “إذا كان الله يحرّم على أي منا أن يخلي زوجته ويتزوج بأخرى، حتى ولو أقام طويلاً في بلد بعيد منفصلاً عنها، ويستدعي نقضه للنذر الذي قطعه على نفسه في الأساس عقاباً فكيف نفلت نحن من العقاب الذي ينتظر الهراطقة في الزمن الآتي إن لوثنا الإيمان الأرثوذكسي المقدّس بشركة زنائية مع الهراطقة؟ والشركة ندعوها كذلك لأن من هم في شركة واحدة لهم الأشياء مشتركة وهم متفقون فيما بينهم. لذلك أقول لكم لا تقربوا محافل الهراطقة لتشتركوا وإياهم في الكأس الواحدة”.
سامحني يا أخي:
وفي مناسبة أخرى اضطر القدّيس يوحنا إلى قطع شماس عن الخدمة مدة لأنه ارتكب مخالفة فحرد هذا الأخير وأخذ يقول كلاماً جارحاً في حق البطريرك حتى أنه اختلق أخباراً في شأنه وسعى في الوشاية لدى الحاكم انتقاماً منه. فلما بلغ القدّيس في أي حال كان شماسه قال: “من يضعف وأنا لا أضعف؟” (2كور29:11). وأيضاً: “يجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل أضعاف الضعفاء” (رو1:15). لذلك قرر أن يستدعيه ويتحدث إليه ثم يعفو عنه لئلا يقع فريسة للذئب العقلي. ولكن، لسبب أو لآخر نسي البطريرك المسألة وانشغل بغيرها إلى أن جاء عيد الفصح. يومها، تذكر البطريرك الشماس الحردان وكان الوقت قداس المؤمنين. وتذكر أيضاً القول الإلهي: “إن قدّمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك. وحينئذ تعال وقدّم قربانك” (مت23:5_24). فأمر للحال شماس الخدمة أن يتلو الطلبة “بعد ذكرنا جميع القدّيسين أيضاً وأيضاً بسلام إلى الرب نطلب” وأن يعيدها حتى يعود. أما هو فخرج إلى غرفة القدسات والملابس، ومن هناك أرسل في طلب الشماس المقطوع. وما أن حضر حتى سجد قديسنا أمامه وقال له: “سامحني يا أخي”، فانذهل الشماس وفعل كمثل البطريرك. إذ ذاك، فقط، دخل الاثنان إلى الكنيسة وأكمل البطريرك القداس.
هذه بعض أخبار القدّيس يوحنا الرحيم وبعض مزاياه. الكل في سيرته كان ينبض بالإنجيل حياً. وكيانه يبدو أنه وقد أنعجن بالإنجيل إلى حد أن أضحت سيرته إنجيلاً.
رقاده:
أما رقاده فكان في مسقط رأسه، أماثوس، في قبرص. فلقد اشتدت، في ذلك الزمان، هجمات الفرس على البلاد المصرية وبدت الإسكندرية في حال سيئة. فتمنى نيقيتا الحاكم على البطريرك أن يزور القسطنطينية ليكون للمدينة المتملكة نصيب فيه أيضاً. وبعدما ألحّ عليه أذعن. ولكن، في الطريق إلى هناك حضره ملاك الرب قائلاً: “قم إلى رب السماوات والأرض فإنه يدعوك”. فتوقف في أماثوس وكان قريباً منها. عاد إلى مسقط رأسه ليولد من جديد، ولكن، هذه المرة إلى ملكوت السموات.
H αναδημοσίευση του παραπάνω άρθρου ή μέρους του επιτρέπεται μόνο αν αναφέρεται ως πηγή το ORTHODOXIANEWSAGENCY.GR με ενεργό σύνδεσμο στην εν λόγω καταχώρηση.
Ακολούθησε το ORTHODOXIANEWSAGENCY.gr στο Google News και μάθε πρώτος όλες τις ειδήσεις.