بقلم الأستاذ إيليّا الهبر
في أحد الأمسية الأنطاكية ” بالمجد والكرامة كللهما ” كان دوري أن أقرأ ثلاث قراءاتٍ ، الأولى من القديس كيرلس الاسكندري ، الثانية من سفر هوشع والثالثة من العلامة ترتليانوس . كانت الوقفة هيّابة إذ جعلني الحدث في وسطه تماماً: أمامي جمهورٌ من عائلات تحلّقوا حول آباء المجمع الأنطاكي المقدّس يتوسّطهم صاحب الغبطة ، ورائي مرتلون وفدوا من كل أنطاكية ، اصطفوا جوقاً منتظماً تحت ضوء شاشةٍ رقمية كبيرة، عبارة عن مادةٍ تقدّست في تلك الليلة لانّها ملأت المدى النظري لعيون الحاضرين وبضوئية حركية قرّبت إلى مآقيهم مشاهد من الحياة الكنسية وأيقونات القديسين. فبين الصوت والضوء تلاقت أصوات الأرض مع أنوار السماء، كما عبّر صاحب الغبطة في كلمته عند انتهاء الأمسية.
عند تلاوتي القراءة الثالثة من ترتليانوس البالغة الروعة عن الزواج، قاطعتني صرخة طفلٍ في القاعة. صرخة الطفل أفرحت قلبي لأنها أعطت حياةً لكلمات العلامة ترتليانوس. أخذتني هذه الصرخة إلى آخر كلمات أحد كبار لاهوتيي القرن الماضي الأب ألكسندر شميمن (1983 +) يوم وقف في الباب الجميل قبل انتقاله بأيّام وأخرج من جيبه ورقةً كتب عليها صلاته الأخيرة، صلاة شكر. ومن ضمن ما شكر الله عليه ، قال: ” أشكرك يا رب على عائلاتنا ، الأزواج ، الزوجات وبخاصةٍ الأولاد الذين يعلّموننا كيف نحتفل باسمك المبارك بفرحٍ وحركة وضجة مقدّسة. ” ليتابع خاتماً بكلمات بطرس : ” يا رب حسنٌ أن نكون ههنا ” .
من هذا القبيل، أصاب صاحب الغبطة عندما أراد أن يربط بصورةٍ حيّة بين الأمسية ومحور مواضيع اللقاء المجمعي أعني العائلة، عندما التفت إلى أعضاء الجوقة سائلاً أفرادها : ألستم أبناء عائلات ؟ هذا ما نحن نسعى لأن نحميه.
وعن الأمسية، إلى جانب موقعها المكاني في البلمند ، والزماني في وقت انعقاد المجمع ؛ تكمن أهمية الامسية في النواحي التالية:
1- أنّ الخبرة الأنطاكية تكتنف إلى التراث الرهباني ، تراثاً للعائلات . فبكل أمانةٍ للّحن وضبط الإيقاع البيزنطي ، كانت الكلمات التي وصلت إليها الجوقة الأنطاكية من كتابية وآبائية باكورة عملٍ وضع المؤمنين والمؤمنات من حبيبين مقبلين إلى الزواج ، وزوجين بدءا مشوارهما أو بلغا نصفه أو أكثر، وابنٍ وبنت يعيشان في كنف عائلة ، على مساحةٍ واسعة من القداسة المرتجاة ، هذه القداسة التي يعلم كّلنا ويقرّ بأنها غير محصورة بالأديرة .
ما أتى به هذا العمل هو أنّه جعل المؤمنين ” العائشين في العالم ” كما اعتادوا أن يسموا أنفسهم يجدون مكاناً لهم وحديثاً عنهم في قلب الحياة الليتورجية الكنسية ، وهذا حق . لا بل من يعرف زخارة التراث الأنطاكي ، يستطيع ان يقول بأنّ هذا غيضٌ من فيض.
وقد قال أحد آباء أديرتنا الأنطاكية لصديقي مع زوجته وهما أبٌ وأمٌ لأربعة اولاد ، شجعهما قال : أنا واحدٌ في سيارتي ( عنى بها كيانه ) أسلك الطريق صعوداً ، أمّا أنتما فسيارتكما ممتلئة وشهادتكما في القيادة صعوداً أبلغ من قيادتي !
2- في زمن التشرذم في العالم الارثوذكسي ، كان تقاطب المرتلين من مختلف المشارب الموسيقية في كنيستنا الأنطاكية ، شهادةً وانعكاساً حيّاً على الوحدة التي تتميز بها انطاكية في امتدادها الذي يلف أديم الشاهدة.
فكان التلاقي بين الفردي والجماعي في الترتيل والأداء تأكيداً على الانسجام في التمايز. هذا، عندما تمّ بروح خدمةٍ ومحبة للرب وكنيسته، حل هدوء في القاعة وسلام شعر بهما الجميع وعبّر عنه صاحب الغبطة في تمييزه وقراءته الروحية لهمس الروح الواجب السجود له في الأمسية ، مكاناً ونفوساً.
3- الجرأة كانت في الجمع بين الضوء والصوت ، لأنّ العلم قديماً وحديثاً يؤكّد أن الصوت والصورة يكونان أقوى عندما يجتمعان. وعلى قاعدة ” لا يفدى إلا ما اتُخِذ ” الآبائية التي يعقّب عليها المطران جورج ( خضر ) قائلاً : كلّ شيءٍ يفتدى إلا ما كان مشيناً ، على هذه القاعدة جمعت الامسية بين أصوات المرتّلين وصور القديسين والمشاهد الكنسية والحياتية على الشاشة الرقمية في القاعة ، لتكون الرسالة أقوى تبليغاً. هذا كان في رصانةٍ أفصحت عن أنّ المادة متّى حرّكها روح الرب تعلن ما تريد ان تقوله السماء. ألسنا أبناء الأيقونة والمدافعين عنها حتّى الشهادة؟
نعم ! لقد كانت هذه الأمسية تكريماً لأنطاكية : مجمعاً قريباً من أبنائه وحياتهم يعرف ما يحتاجه الشعب المؤمن ، وأزواجاً يسعون إلى القداسة على غرار الأزواج القديسين الذين رتّلت طروبارياتهم الجوقة ، وعائلةً تسعى لأن تكون بيتاً للرب تعمل بما تناديه الحكمة في الكتاب العزيز كما صدحت الجوقة وتركته لازمةً في أذهان من كان في الأمسية .
ومع صدى هذه الأمسية الحدث ، وفيما المجمع منعقدٌ وآباؤنا فيه ومن خلالهم نحن بين يدي الرب، لا يسعني إلا أن أقول كابنٍ لهذه الكنيسة الأنطاكية المتجذرة : يا رب حسنٌ أن نكون ههنا !